تازة : “كهف الغار” قبلة إستغوار ومنارة مدار..
عبد السلام انويكًة
www.alhadattv.ma
تعد أعماق الأرض عالماً قائماً بذاته لِما هو عليه من تشكيل وتفاعل ومشاهد ومكونات بجاذبية واثارة، ومن هنا رغبة تعرف واسعة من قِبل مغامرين ومستكشفين، وعشاق سياحة ومولوعين بجولان مسالك باطن الأرض، وما يحتويه من معالم خلفها تفاعل كيمياء ملايين السنين. ولعل أنشطة الاستغوار spéléologie هي عنوان كل ما هو دراسات ورياضة وترفيه وترويح ومغامرة وتأمل وتحديات، ذات علاقة بما يحتويه باطن الأرض من بنية وتشكيل وكائنات وكهوف ومغاور وفتحات. والى جانب ما يقوم عليه من بحث وتنقيب وفحص وتعرف في مجالات بتكوين جيولوجي كارستي، يروم الاستغوار أيضاً كشف مشاهد جمالٍ وخلْقٍ طبيعي تحفظه الأعماق منذ زمن بعيد يقدر بملايين السنين. وعليه، بفضل باحثين ومهتمين وممارسين ارتبط هذا النشاط بعوالم باطن الأرض، وهو الذي تعود بداياته في المغرب لسنوات الحماية الفرنسية، من خلال ما أسهم به عدد من الاستغواريين الفرنسيين، ممن اهتموا بكل ما هو مياه واحيائيات وتكوينات ارتبطت في نشأتها وحياتها وتفاعلها بباطن الأرض.
وبحكم بناء منطقة تازة الجيولوجي، وكذا ممرها الذي هو جزءاً بل عتبة ما عُرف في تاريخ المغرب البحري بمضيق جنوب الريف خلال زمن الميوسين. فقد كان قبلة لأولى أنشطة الاستغوار بالمغرب منذ بداية ثلاثينات القرن الماضي 1934، من خلال اسهامات الفرنسي نوربير كاستري الذي يعود له فضل اكتشاف مغارتي “فريواطو” “شيكر” المتقاربتين، فضلا عن مغارات أخرى مجاورة جنوب تازة على بعد حوالي العشرين كلم. ولا نعلم إن كانت هناك محاولات اختراق هذه المكونات من قبل أهالي المنطقة قبل هذا التاريخ في اطار عامل وعلاقة قرب وحب استطلاع ومغامرة، بحيث لا نجد أية اشارات أو رواية شفوية، حول ما يمكن أن يسجل ويحسب لفائدة عمل استغوار(تعرف) أولى محلي.
وهذه الورقة خلافاً لمألوف في هذا الاطار، لا نتوجه بها لجنوب تازة الغني الشهير بكهوفه ومغاراته، التي تزيد عن الثلاثمائة مغارة بحسب المهتمين الاستغواريين الفاعلين عن الجمعية المغربية للاستغوار، وقد يكون الرقم أكثر من ذلك على أساس أن مساحة واسعة من هذه المكونات، لا تزال غير مكتشفة، لأسباب متداخلة منها وعورة المنطقة وتعقد مسالك بلوغ مداخل وفتحات الكهوف والمغارات، ناهيك عما يطبع هذه الثروة المحلية الجهوية والوطنية من قلة عناية في رهان النماء، ومن ضعف إرادة في إعدادٍ وتهيئة واستثمار بعيد ومتوسط المدى، باعتبارها ذخيرة طبيعية رافعة لاقتصاد اجتماعي سياحي جبلي وقروي. وناهيك أيضاً عما يوجد من قلة تثمين وقراءة لجهود المجتمع المدني في هذا الاطار، بالنظر لِما بات من تجربة واسعة ميدانية محلية ومن نتائج استكشاف متزايدة.
في هذه الورقة لا نتوجه بالعناية لمغارة “فريواطو”، كمعلمة طبيعية مغربية شهيرة متفردة بكونيتها الجمالية وإحيائياتها. ولعلها مجرى مائي عميق وقديم يعود لملايين السنين، وقد يكون ازداد عمقاً لينتقل الى مغارة “شيكًر” المجاورة ضمن سياق جيولوجي تطوري ارتبط ببنية مجال ككل. ومن هنا رهان الجمعية المغربية للاستغوار التي هي بفضل كبير من خلال أنشطة تعريف وتواصل واشعاع واستكشاف لعقود من الزمن، ليس فقط في تسليط الضوء على مركب مغاراتي هو الأوسع والأهم بالمغرب وافريقيا والعالم، بل بلوغ نقطة تلاقي باطني بين مغارتين جارتين هما افريواطو وشيكًر. بحيث يتوقع أن يكون بينهما مسلك وخيط رابط من شأنه السماح للاستغواريين بمزيد من البحث والولوجية، خاصة وأنه عند وضع تقابل بين تصميم المغارتين يظهر أنهما متقاربتين جداً وأن الفرق بينهما يكمن في علو بين الأولى والثانية.
هذه الورقة ارتأينا أن نتوجه بها لوجهة أخرى ضمن نفس مجال الاستغوار والكهوف والمغارات بالمنطقة، وجْهَة ذات تماس مجالي بمقدمة جبال الريف وذات علاقة ببلاد قبيلة البرانس، تحديداً مجالها الغربي الغني بطبيعته وتراثه وتنوع ايكولوجيته وخصبه ومشاهده الطبيعية المتفردة. وجْهة جبلية تجمع بين العلو ووعورة المسالك وتنوع المكون وتباين المشهد، أين توجد واحدة من أجمل مغارات المنطقة، والتي تعرف في الطوبونيميا المحلية ب”كهف الغار”. ولعله ايضاً اسم مركز قروي بموقع جبلي مقابل لقمم مرتفعات الريف بشمال اقليم تازة على بعد حوالي الخمسين كلم، وغير بعيد عنه نجد مغارة بأهمية وجمال وإثارة خاصة في التعرف والاستطلاع، كانت بعناية من قِبل مستكشفين عسكريين خلال السنوات الأولى للحماية الفرنسية على المغرب. بحيث للاشارة فقط كانت إحدى الفرق الفرنسية في اطار عملياتها بالمنطقة 1916، قد نزلت على مقربة من هذه المغارة مما سمح لبعض المغامرين العسكريين بدخولها، ومن هنا بداية اتساع المعلومة حولها خاصة ما يتعلق بمعطياتها الجيولوجية ومكوناتها المورفولوجية. ولعلها مغارة على درجة من الأهمية المجالية والجمالية، تلخص عملية حفر عبر ملايين السنين من أجل مخرج أو فتحة باطنية ذات علاقة ببحيرة ماء صغيرة، يقطعها مجرى مائي مشكلا بذلك مصدر مياهها قبل أن ينتهي بمنخفض مجاور. وهذه المغارة التي هي بمثابة ممر Couloir مستقيم بطول يصل حوالي أربعمائة متر، هي بمدخل في الأعلى يشكل قبة Vaute بعلو تسعين متر تقريباً تسكنه طيور برية متباينة النوع. وبالمقاطع الصخرية الداخلية Blocs يوجد معبر يسمح بالمرور الى جانب مجرى مائي باطني، ويؤدي الى جانب آخر نهائي للمغارة في الأسفل Aval .
ومن المهم الاشارة الى أن لمغارة “كهف الغار” مكانة خاصة في تمثلات وذاكرة القبيلة المحيطة لدرجة ما هو إجلال Culte، وعليه لم يكن من السهل بلوغها وولوجها لكونها توجد وسط تجمعات وفرق قبلية ولأنها برمزية فيما هو إرث شعبي لامادي محلي. علماً أنها قد تكون بعمق اركيولوجي ما لايزال بحاجة لأبحاث ودراسات، وأن من تمكن من دخولها خلال بداية فترة الحماية الفرنسية، كان بخلفية استطلاعية تعرفية لا غير فلا أحد وضعها ضمن رؤية بحث علمي، الأمر الذي نعتقد أنه لايزال قائماً فلا نعلم إن تمت هناك أبحاث أنجزت حول هذا المكون، وتم ترتيب ما يتعلق ببانها وبنيتها وتميزها مجالياً وجيولوجياً واركيولوجياً، وحتى وإن كانت قد شملتها دراسات فهي لاتزال مغمورة. كل ما يوجد هو روايات شفوية عابرة للزمن الشعبي المحلي، تتحدث عن رسوم حيوانات بصخور هذه المغارة وهو ما لم يخضع لأي تحقيق علمي، ليظل كل شيء مجرد تخمينات وفرضيات وقراءات شعبية عالقة، و ليبقى كل هذا وذلك جزء من ذاكرة مغارة بحمولات ثقافية اجتماعية، لها موقعها ووقعها في الاثارة والزيارة والتأمل والسؤال والترفيه والترويح والانفتاح على الطبيعة والخلق الطبيعي.
وفي هذا الاطار لتنظيم جولة الى قرية “كهف الغار” هناك حاجة ليوم كامل تقريباً، ولعل الوجهة من تازة المدينة تكون باتجاه بلاد قبيلة البرانس الغربية وطريق تايناست شمالا. الى غاية بلدة “أحد امسيلة” بحوالي عشرين كلم من تازة، قبل تجاوز وادي لحضر وأخذ طريق مركز”كهف الغار” حيث مرتفعات الريف والمغارة السابقة الذكر، التي رغم محدودية طولها فهي توفر مجرى مائياً باطنياً وتنوعاً بيئياً تتقاسمه حياة برية نادرة وفضاءات داخلية كما فضاء “الجامع” بحسب تسمية الأهالي، وهو بتكوينات جيولوجية وجمال متفرد يجمع بين صواعد ونوازل عدة وبعلو يصل حوالي الثلاثين متراً. مع أهمية الاشارة الى ما توجد عليه فتحة نهاية المغارة من مناظر ومشاهد بيئية قروية روعة، حيث بساتين أشجار مثمرة متنوعة وعيون مياه جارية واطلالة على أسافل. وهي الزيارة التي يمكن أن تتخذ من ختامها طريقاً غير طريق القدوم الأول، وذلك عبر بلاد بني بيعلى ثم مركز أحد امسيلة ومنه بعد قطع وادي لحمر يمكن بلوغ مركز واد أمليل حيث طريق فاس تازة.
منطقة “كهف الغار”وجهة برهان سياحي جبلي واعد، إن هي تبلورت رؤى تنمية قروية تشاركية، تجمع معنيين من مجتمع مدني وجماعات محلية وإطار جهة ووزارة وصية ومؤسسات بحث علمي وظيفي، ومراكز داعمة لمثل هذه الرهانات الانمائية التي تستثمر في انتاجها ما هو طبيعي تراثي مادي ولامادي، ربما من مركز سينمائي ومؤسسات إعلام ولقاءات علمية محلية وطنية ودولية، والتي من شأنها قراءة الامكانات وتدارس سبل وآليات تهيئةٍ وإعدادٍ ضمن ما هو جهوي جديد وتشاركي.
ومجال تازة بالنسبة لجهة “فاس مكناس” هو بحق مخزون سياحي بعرض نوعي متنوع خام ومتفرد، بقدر ما يجمع بين ما هو طبيعي ثقافي وتاريخي بقدر ما هو رافعة لقطاع سياحي جهوي واسع، إن هي توفرت إرادة تدبير من أجل مدارات سياحية جهوية أكثر تكاملا وجاذبية وفائدة على بلاد وعباد. مع ما يمكن أن يسهم به إعادة تشغيل مندوبية اقليمية للسياحة أو على الأقل إحداث مكتب سياحي بعدما تم إغلاقها قبل حوالي ثلاثة عقود، هذا في أفق تنشيط سياحي انمائي مع معنيين محلياً وجهوياً. وفي أفق خدمات إدارية وتنظيمية وتواصلية ومعها تسطير أولويات.