محمد بودويك: في الحاجة إلى هوية إبداعية وإنسانية

www.alhadattv.ma
الهوية كلمة مركبة من الضمير المنفصل “هو”، و” ياء النسب”، و “التاء المصدرية”. وتعني: أنت وليس أنا. وأنا وليس أنت. وتفيد الكشف عمن أنت، وعمن تكون، وما ماهيتك، وجوهرك، ومظهرك، وتركيبك.
ويعرف ” المعجم الوسيط “، ضمير الـ”هو”، تعريفا صوفيا مفاده أن ال “هو”:( هو الغيب الذي لا يصح شهوده للغير كغيب الهوية المعبر عنه باللاتعيين، وهو أبطن البواطن).أي أن ” الهو ” هو وعي الأنا الوجودي والموجود باعتباره ماهية وكينونة.
وقد اتفق الفلاسفة المسلمون قديما، أو كادوا، على أن ” هوية الشيء ” هي عينيته وتشخصه، وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك.
والهوية، من جهة أخرى، هي وعي الإنسان وإحساسه العميق بالانتماء والانتساب إلى مجتمع ما، أو أمة ما، أو طبقة ما. إنها حاصل ما وصلنا، وما يسكننا إنيا، وأضحى، نفسيا وروحيا وأنطولوجيا، قوامنا ومقوماتنا، ووجهنا وسماتنا الفارقة، ومجمل صفاتنا التي تميزنا عن الآخر، عن المغاير لنا، أي ذاك الذي هو جماع عناصر مركبة مختلفة صنعت هويته، وبنت مفارقته وتميزه. وفي كل الأحوال، فالهويات، إنْ هنا أو هناك او هنالك، تتكامل في أفق الاندماج والانشباك والانصهار، لتشكل، وقد شكلت، وجه الكون، وسمته ونعته، وما به قيامه وحركته، وانوجاده.
ثم إن الهوية الواحدة مظهر براني ملموس لعناصر مختلفة كامنة وجوانية هي ما يجسدن هوية الواحد منا، وأعني بتلك العناصر: اللغة والدين والثقافة، والتقاليد والعادات والأعراف، وغيرها. وهو ما يقود إلى الكلام عن صراع الهويات أو بعضها في أقل تعديل، من منطلق عنصري غالب ومهيمن، يتوهم نقاء الدم، وعظمة الدين، وصفاء المحتد، والمنحدر السلالي، والانتماء المجتمعي، والفئة الاجتماعية والطبقة.
وقد أشار كثير من المفكرين والكتاب، إلى خطورة هذا الصراع الذي تستولده تلك الأوهام، وتغديه الحماقات، وما يترتب عليها من أحقاد وضغائن، وكراهة تصل ـ وقد وصلت ـ إلى امتشاق السلاح، أوجز الرؤوس من قبل إرهابيين زين لهم وَهْمُ أفضلية دينهم، أن يفعلوا ما فعلوه، أو شعورهم بالتخلف عن الركب الحضاري، أن يركبوا أعتى الشرور، ويأتوا أخس وأحقر الردات.. ردات الأفعال الطائشة والرعناء التي تسببت في ما نعيشه الآن، ونراه مشدوهين، مسلوبي الإرادة والقوة، من هجرات واقتلاعات، وإبعادات، وقتل وتقتيل، وخراب عام.
ومن ثم، أمكن القول بالهويات القاتلة كما ذهب إلى ذلك الكاتب والروائي أمين معلوف. أو بتعبير أشنع فيما أقول: الهويات الاستئصالية الساعية إلى محو الآخر، وتسليط أحط مشاعر الكراهية والمقت والتكفير، عليه.
ولأنها هويات غير مكتملة في رأي الشاعر أدونيس، بات لازما لازبا، حقنها بالأكسجين الضروري، وإمدادها بماء المحبة الدافق، والاحترام الواجب، لا التسامح الكاذب، والتقدير المطلوب، من أجل إقامة سكنى واحدة مشتركة على الأرض: أمنا جميعا. فلم تعد مقولة روديارد كيبلنج قائمة، أو ذات دلالة في واقع اليوم: ( الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا ). بل أصبح العالم واحدا، قرية صغيرة في حجم الكف. الشرق والغرب كلاهما متصلان متحدان في السراء والضراء، وفي الحب والكراهية سيان. وكل ذلك بفضل الاكتساح العلمي، والانتشار الساحق الماحق للفتح التكنورقمي العالمي.
إن ذلك يعني ـ فيما يعنيه ـ وجوب التعايش والتجاور والتساكن والتواد في ظل الحب والتضامن الأممي، وأخذ الغالب بيد المغلوب اقتصاديا واجتماعيا، وثقافيا، وحضاريا لأسباب تاريخية ذاتية وموضوعية، وجيوستراتيجية. ومن هذه الأسباب: الاستعمار والاحتكار، وتواطؤ الأنظمة، وهجرة أدمغة دول الجنوب نحو دول الشمال حيث لم تطق العيش، ولا وجدت أهلا ولا سهلا تقدح فيه عبقريتها، وتخرج مجتمعاتها من الفقر والتخلف العلمي، إلى أمداء الاختراع والكشوف، والثقافة والعلم، ومجتمع المعرفة.
وإذاً، ما نبغيه ونبتغيه، هو العمل على استيلاد الهوية الإنسانية، وبناء الهوية الإبداعية في الإنسان أكان مغربيا أو عربيا، أو يهوديا، أو أوروبيا، أو أمريكيا، أو أسيويا، أو أستراليا.
ومعنى ذلك أن يكون المغربي ـ مثلا ـ إنسانا في الأول والأخير. ففضلا عن هويتي وهويتك التي حددها الدستور في الفصل الخامس، والتي هي جماع وحاصل عربيتي وعروبتي وأمازيغيتي، وحسانيتي الصحراوية في ظل الإسلام. وروافد ثقافتي الكامن المتجذرة في إفريقيتي وأندلسيتي وعبرانيتي ( يهوديتي )، ومتوسطيتي( أي انتمائي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط ). فضلا عن هذه المكونات والعناصر الثرية والغنية بما لا يقاس، وبعيدا عن منطق المحاصصة والترضيات، يتعين أن أجعل من غناي الثر هذا، وسيلة وغاية في حياتي ومسعاي مع أفراد مجتمعي، وافراد المجتمعات الأخرى في إطار ومناخ من الحب واحترام ثقافاتهم وحضاراتهم، ولغاتهم، ودياناتهم، ونشر لغة الحاجة الملحة إليهم وإلينا سواء بسواء عبر التعاون والتضامن، والإسهام المشترك، والندية المطلوبة، والاختلاف الهوياتي الغني المكمل المفيد في التكثير والتركيب والبناء، وتبادل الثقافات والخبرات والتجارب وغيرها.
فلا وجود لهوية ثابتة ستاتيكية منغلقة كما يعتقد بعض المتزمتين المتعصبين الذين تشوب رؤيتهم وعقولهم، وقلوبهم، وعيونهم، شوائب لا تخفى من العنصرية والكراهية، وتبخيس قيمة الاخر، وتحقيره، واعتبار ما لديه هو المنجاة في الدنيا والآخرة.
الهوية مغامرة وإبداع وتجريب، ومخض وامتخاض. إنها وجود عيني قلق لا يني يفكر ويبحث ويسعى جاهدا إلى اجتراح واختلاق أفق بعد أفق، وغد بعد غد.
فالمطلوب أن يخلق الإنسان، والمبدع في المقدمة ـ أيا كان لبوسه ـ عالما جديدا أكثر إبداعا وإنسانية، شرط أن يكون أيضا، وبشكل رئيس، خالقا لنفسه، مبدعا لها، تبعا لما قاله الشيخ الأكبر محيي الدين:
نكحتُ نفسي بنفسي ** فكنتُ بعلي وعرسي
بغيرهذا، سيظل العالم العربي الإسلامي منكمشا، متخندقا ومنغلقا. وأوروبا وأمريكا، وبعض دول آسيا، متغطرسا ومحتقِرا ومتغولا. والهوة بين الشمال والجنوب وسيعة وسحيقة. والأوهام، أوهام الأفضلية، والعلمية، والتقدم التكنولوجي، والأمجاد التاريخية، والماضي التليد، وكنا ( خير أمة )، و( شعب الله المختار )، سيدة سائدة ومهيمنة، تنذر بأوخم العواقب، وقد أنذرت. وشر النهايات وقد أخطرت. وشبح الخراب المهرول القادم، وقد أرهصت.