عزيز باكوش.. في الحاجة إلى المشاهدة الهادئة

www.alhadattv.ma
أصبحت حاجتنا اليوم ماسة وأكثر من أي وقت مضى إلى أدب وأخلاقيات المشاهدة( مشاهدة الفيديوهات) بشكل عام ، أو المشاهدة بالمقاهي أوالفضاءات العامة (على نحو خاص ) حاجتنا ماسة وضرورية بل وأكثر من مستعجلة .
عندما تلج بوابة المقهى، باحثا عن لحظة صفاء ذهن وفنجان يضبطها، تطالعك وجوه من مختلف الفئات والأعمار، وملامح غاطسة تؤثث مختلف الجوانب والردهات ، وتستفزك نظرات مغروسة في شاشات هواتف ولوحات إلكترونية متفاوتة الأحجام والأضواء، لكنها مثل سوق عشوائي يبالغ مرتادوه في التصرف بعشوائية بالأصوات ،وتوزيعها بصخب مستفز الإيقاع والنبرات .
فهذا شاب يستمتع بمشاهد حية من عرس بدوي بمنطقة جبالة ، مندمجا بالكامل ، لدرجة أنه ملأ الجوار بالزغاريد وفرقعات الطبول وطلقات البارود . وهناك على الجانب الآخر ، استرسل زميل له في عرض فيديو يجمع نجوم الراي في سهرة صاخبة ، وقد تقاسم متعته مع الجوار بلاذوق . وبينما يرسل صاحبنا العشريني ذو التسريحة الشيطانية رسائل أوديو إلى زميلته منتشيا ،كما لو كانا معا في جزيرة معزولة، تعمد الرابع في خشوع مفبرك ،ترك المنبه يصدع على إيقاع الآذان إلى نهايته وعلى منتهاه .
لكن الأنكى من ذلك ، وفي لحظة ما ستنتفض مذهولا في مكانك ، وتنتابك رجفة هلع حقيقية على إيقاع صوت مكالمة مفاجئة، لم يتحكم أحدهم في ضبط بياناتها الخاصة ، فراح يسب حماته بصوت مسموع ، ويعنف زوجته كما لو في بيته ، ويؤنب المحكمة بجزافية ،ويشطب على ما جادت به مدونة الأسرة بتعالم غبي ، ويصب جام غضبه على الواتساب اللعين … فيصيبك الهلع لثوان ، ثم ما تلبث أن تعيد انفعالك إلى داخلك ، وتهدأ من روعك كما لو أنك في ضيافة مفروض عليك الامتثال لقانونها الداخلي.
وهكذا، يتحول فضاء المقهى الذي قصدته باحثا عن لحظة استرخاء ، فضاء نجحت تجارب كثيرة في عدد من المدن المغربية في تحويله إلى فضاء ثقافي هادئ لاقى استحسان الرواد والزبناء على حد سواء ، إلى فضاء منفر مزعج مستفز في الكثير من الأحيان ،لما يعج به من ضجيج وصخب متفاوت المصدر ومتناقض الأذواق والأمزجة .
مالك مقهى كورسيكا بفاس ، مجاز ومحب للعلم وللأدب ، حيث خصص الفضاء العلوي للمقهى وجهزه بفضاءات مريحة ،الشيء الذي حوله إلى فضاء جالب للاسترخاء ولربح الوقت بدل قتله ، عبر تجهيزه بمقاعد مريحة ، ومقابس في المتناول وأنترنيت بعيدا عن صخب الشاشات العملاقة .
ما جعل الكثير من الشباب الطموح يختار هذا الفضاء للتحضير للدرس المدرسي الأدبي والجامعي وغيره . ورغم نجاح هذه التجربة ، إلا أنها تظل مهددة بالكثير من بعض التصرفات الطائشة ،غير المضبوطة، منها غياب الوعي في الاستغلال الأمثل لمثل هذه الفضاءات ، والاستماع بهدوء ، وعدم التشويش كثيرا على الرواد وعلى الهدوء الذي يوفره المكان ، علما أن كثيرا من المقاهي بحينا لا تنسجم تصاميمها لاستقبال جلسات مريحة من هذا النوع.
يحدث هذا رغم أن التقنية والتكنولوجيا اليوم وفرت الاستمتاع بالموسيقى عبر تقنية الكيت دونما إزعاج الجوار . لذلك ، فمن يرغب اليوم في الاستمتاع بجلسة هادئة كي يقرأ كتابا، أو يطالع جريدة ،أو يكتب خاطرة ، أو يستمع فيها لرنين أعصابه على رشفات الفنجان، عليه بالسفر إلى مكان آخر قد يكون له نفس الإسم، لكن دون صخب ولا نغمات نشاز. …يا ساتر ؟؟؟