ads980-90 after header


الإشهار 1


تازة تودع صاحب مؤلف”املشيل ويطو” الى متواه الأخير..

الإشهار 2

www.alhadattv.ma

* عبد السلام انويكًة

فقدت تازة أمس 16 يونيو 2022، أحد وعلاماتها الغيورة على ترابها وتراثها وأثاثها المادي واللامادي، علامة حرصت وتدافعت وترافعت على امتداد عقود من الزمن من اجل سؤال تازة التاريخي الحضاري. تازيا عصاميا غيورا يشهد له ما كان عليه من حب وغيرة وعشق للمدينة في كل تجلياتها وكيانها زمنا ومكانا وانسانا وقضايا نماء وتنمية وحماية تراث وغير هذا وذاك من اسرار أمكنة وأزمنة شغلت بال رجل متميز وأخ عزيز منذ عرفناه قبل عقود من الزم. رحل الى دار البقاء أخونا الغيور امحمد الباهي العلوي رحمه الله بعد مرض منذ فترة، رحل وقد جمع في حياته بين عصامية خاصة وارادة حياة قوية وبادرة اسهام وإغناء واضافة، فضلا عن وعاء ثقافة تاريخية محلية اطرت وأثثت وأنعشت المدينة لسنوات وسنوات. هكذا كان وهكذا عرفناه رجلا طيبا منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، مشاكسا غيورا مدافعا محبا لتازة لما فوق العادة، وهكذا أفنى زهرة عمره رحمه الله بين سؤال ونبش وتنبيه واجتهاد في حدود طاقته، فكان بما كان عليه من نصوص تنويرية كانت بنفس ووقع خاص، لدى قراء ومحبي وعشاق تاريخ وتراث تازة في ظل ما كان من بياض شبه تام.
ارتأينا بهذه المناسبة الأليمة ونحن نودع هذه العلامة التازية المتميزة اطلالة على واحدة من سفريات كتابة فقيد تازة هذا، تلك التي ارتبطت باصدار موسوم ب”سيناريو املشيل ويطو”، عن فترة تسعينات القرن الماضي، فقيد تازة الذي نحفظ له بكل عزة وتقدير ما كان عليه من سؤال تاريخي ونبش رحمه الله على امتداد عقود من الزمن، حول هذا وذاك من تراث وأعلام وأثاث عمارة مدينة فضلا عن تحريك وعي وفعل نشر وتناول، بشجاعة أدبية مثيرة لجدل، من خلال ما انفتح عليه من قضايا وملاحظات بذكاء إثارة لا شك أنها كانت سر ما اغتنت به خزانة المدينة لا حقا من، وما حصل من اسهامات وتنوير وتعريف ومن ثمة نصوص تاريخية وتراثية. وكان هذا الفقيد الفاضل الغيور على تازة وتراثها ووقعها الزمني في رحاب البلاد والعباد، قد مكنني بتوقيعه كعادته كلما كان بصدد جديد وسؤال بنسخة من مؤلفه هذا الذي لازلت احتفظ به، لمَّا كان مشرفا على خزانة القراءة بتازة العليا التي كان مقرها بدار المشور حيث المدرسة المرينية الشامخة. مكان بذاكرة خاصة لِما شهده خلال تسعينات القرن الماضي، من مساحة أنشطة فكرية ومواعيد جدل ولقاءات مع أعلام وطنية بارزة عدة. املشيل ويطو” لفقيد تازة محمد الباهي العلوي الذي خصصنا له تغطية خاصة في حينه، إثر حفل قراءة وتوقيع أطرناه رفقة مهتمين ومعنيين ببهو المعهد الموسيقي بالمدينة قبل ربع قرن من الزمن تحت اشراف مديرها آنذاك الأستاذ عبد اللطيف لمزوري. “املشيل ويطو” هذه الوثيقة الذاكرة من أوراق فقيد تازة وهذا الوعاء من تراث محلي مغربي دفين أو هذا “السيناريو” كما شاءه تقديره له رحمه الله، هو بأزيد من مائة صفحة من قطع متوسط وبرسومات دالة في واجهته من عمل الفنان محمد خلوف، تعود فكرته الاشتغال على تيمته لمطلع تسعينات القرن الماضي قبل أن يصدر في طبعة أولى عام ألف وتسعمائة وستة وتسعين عن مطبعة فضالة بالمحمدي. فكان بما كان عليه من وقع وصدى طبع مشهد طفرة كتابة وابداع وكاتب ومبدع كما سبقت الاشارة يسجل عنها ولها وصوبها ما كانت عليه من تميز.
جدير بالاشارة في علاقة بهذا العمل الابداعي التراثي، الى أن ذاكرة الشعوب ليست سوى مزيج واقع وخيال وحقيقة واسطورة، بل كثيرا ما يغلب الثاني على الأول فيحصل أن ينمو هذا المزيج مع زمن ويزدهر بفعل عمل مبدعين في شتى فروع التعبير الانساني ومعارفه، ليتشكل من كل هذا وذاك وعاء تراث وثقافة، ليست في نهاية مطاف سوى ما يكتنز في ذاكرة شعوب من معارف انسانية وحضارة يتولد عنها ما يتولد من طاقة ابداع خلاقة. اشارات وغيرها استهل بها الوطني والاعلامي والدبلوماسي قاسم الزهيري رحمه الله تعالى، تقديما لهذا العمل وقد استحضر فيه ما تحتويه الانسانية من تراث رمزي كما بالنسبة مثلاً لملحمتا الالياذة والأوديسا لهوميروس، وسيرة سيف ابن ذي يزن عن التراث العربي، التي استلهمت تيمتها من عبق ما هو خالد متفاعل عبر الزمن من إرث لصور خير وشر وحب وصراع وبقاء وموت وبداية ونهاية وقوة وضعف. وما أكثر قصص حب وفراق وبعد ووشاية وحسد في الجمعي من أدب وتراث عربي، من قبيل قصة الشاعر جميل الذي أحب بثينة فكان ما كان من غضب قوم ومن قبيل قصة الشاعر قيس بليلى وما حصل من فراق. نفس الشيء ما نجده في تيهات أدب غربي ومنها قصة روميو وجولييت لشكسبير مثلاً كذا قصة بول وفرجيني التي ترجمها لطفي المنفلوطي عن بيرناردان الفرنسي.
مشاعر نفسها نجدها في متن “سيناريو املشيل ويطو” للباهي العلوي رحمه الله تعالى، وقد اختار لها مرتفعات الأطلس حيث قبيلة حديدو هناك وحيث بحيرة أزلي وتزليت، وكان أب يطو قد رفض تزويج ابنته ومن ثمة ما حصل من هروب لطبيعة وغربة وابتعاد عن قيود حياة. هكذا رحلة رواية هذا سيناريو “املشيل ويطو” الذي ليس بوحدة موضوع وزمن ومكان، رغبة من المؤلف في طرق قضيتين معا، من جهة قصة حب املشيل ويطو ومن جهة ثانية ما ارتبط بحروب صليبية اختار لهما مواقع ثلاثة هي مجال قبيلة غياتة ومغارتها ثم فاس حيث دار امارة وقصر يعقوب المنصور الموحدي، وأخيرا مدينة القدس التي استعادها صلاح الدين الأيوبي.
هكذا انتقل صاحب”املشيل ويطو” من مكان لآخر ومن زمن لآخر، لبلوغ ما رآه جاذبية تيمة في علاقة بفترة مشرقة من زمن الاسلام والمسلمين، ذلك الذي تم في استعادة مدينة مقدسة من قِبل بطل حطي. وكان هذا الأخير قد بعث قبل أكثر من ألف سنة من الآن بوفد تحت رئاسة قائد جيشه عبد الرحمن بن منقذ، بغرض طلب مساعدة عسكرية من يعقوب المنصور الموحدي لافتكاك مدن عكا وصور وطرابلس ببلاد الشام. وغير خاف ما هناك بين متخصصين مؤرخين من خلاف نصي تاريخي بين أهل مشرق ومغرب حول درجة تعاون وتلبية طلب، لأسباب ورد عنها ما ورد في نصوص هنا وهناك. ليبقى المهم والأهم جهد مؤلف جمع شتات موضوع بقدر معبر من تشويق واثارة وابراز لِما في تراث البلاد الرمزي من مساحات تأمل، من شأنها اغناء صورة وفرجة وسؤال وتربية وناشئة وهوية وانتماء ووطن. وعيا من المؤلف بما هناك من قصص متداولة هنا وهناك وبما ينبغي من التفات وجمع لها كتراث ومشاعر انسانية.
ولعل نبوغ فقيد تازة وصاحب “املشيل ويطو” تجاه تراث شعبي وقصة جامعة بين أمكنة وأزمنة وفاعلين رمزيين هنا وهناك بمغرب ومشرق خلال العصر الوسيط، وعيه بكونه عملا ابداعيا فنيا نتح من عبق تاريخ من أجل ما هو درامي سينمائي لا غير، فكان ما كان عليه من غزل تاريخ وما اعتبره وقائع تاريخية ومن غزل مواقع من قبيل مغارة فريواطو وموسم خطوبة بالدراما. هذا من خلال عمل سيناريو توزع على رموز لقطات مشاهد، فضلا عن حوار جمع بين موسيقى وصياح وصوت دالة وحوافر رمزية وتعبير ايقاعي فني، كذا خرير مياه وهيبة جبل وصراخ طرائد ووقع ضربات وجدل سوق ومطارق حرفيين ونفخ كير. الى جانب ما طبع حوار السيناريو ايضا من تمثلات لقاء واجتماع وشيوخ قبائل ودار ملك وسلطان، ومن التفات لأثاث سيوف ودراع ولباس وعتاد قتال وجودة صنف، ومن حديث عن غارات وبيت مقدس وقادة ميدان بمشرق ومغرب، ومن وفد ورسائل ومطلب نجدة واستقبال وحزم وهدية ومصاحف وبر وبحر ورجالات حكمة وطب وفلك وسحر، فضلا أيضا من حديث عن مرض واصابة كبد وصوت نحل وشهد وعسل لفائدة يطو، ومن ثمة مغارة ونزول وعلاج واعتراف بجميل انقاذ حياة وزغاريد حب ووقع خطوبة، هكذا بلغ حوار سيناريو املشيل ويطو الى رؤية يطو واقفة مع غريب قرب كهف في خلوة لا تليق بفتاة قبيلة محافظة بجبل، وهكذا قصة ازالة عشق ونهاية وجزاء غريب ارتآى أنه أحق بخطوبة بعد شفاء.
كله أثاث حوار طيع هذا العمل، فضلا عما استحضر من نزال ومقاومة وقيل وقال وتقاليد بيئة وسلف، كذا مشهد أغلال وأكبال ورمي عاشق في جوف كهف وتردد صياح بجبل وبين وديان، هذا قبل بداية مغامرة وسفر في احشاء باطن ارض رفقة اشباح وقطرات ماء بحثا عن نقطة ضوء ومهب ريح وحديث عن موت وبقاء اسم عالق بكهف، ذلك الذي انتهى اليه سياق قصةٍ ب”افري يطو”، هذا قبل فرج ونصر ونجاة بعد ليل مظلم وقبل حديث عن”املشيل” ابن كبير قبيلة آيت حديدو حيث العشيرة وديار أهل، وقبل حديث عن عودة رفقة امرأة ما هي في السيناريو ليست سوى ابنة شيخ قبيلة غياتة، تلك التي ستكون سر تقليد وعرف املشيل مرة في السنة لمن أراد زواجا، وكان بغضب ورفض من أهل وآباء لِما قد يكون من حساسية مادة وأسرة أو عشيرة.
بكل هذا وذاك عبر فرجة قصة وحبك من تراث بلاد وعباد، ينتهي مؤلف ”املشيل ويطو” الفقيد امحمد الباهي العلوي الى ما اعتبره سر موسم خطوبة املشيل الشهير بقبيلة آيت حديدو وسر الاحتفاء به كل سنة بعد موسم حصاد، مضيفا أن من شدة بكاء “يطو” العروس ملأت منخفضا تحول اثر ذلك لبحيرة هي التي تعرف ب”تسليت” أي الخطيبة. ونس الشيء هو ما حصل من بكاء لـ “املشيل” العريس فرحا بنجاته حتى ملأ منخفضا آخر مكونا ضاية تعرف ب”اسلي” أي الخطيب. يبقى أنه يقدر ما كان عليه مؤلف ”سيناريو املشيل ويطو” لمحمد الباهي العلوي فقيد تازة رحمه الله، من جهد واثارة وشغف وسؤال ونبش في تاريخ وتراث منطقة، بقدر ما أثاره من جدل وحلم في علاقة بمؤسسات عربية كما بالنسبة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومن تأمل صوبه من رجال فكر وثقافة وتاريخ من قبيل العلامة عبد الهادي التازي رحمه الله.
لقد كان فقيد تازة رحمه الله تعالي وكما عرفناه منذ عقود، بدينامية خاصة طبعت حضوره ورأيه هنا وهناك اينما حل وارتحل، بل ايضا بمكانة خاصة طافحة بعصامية معرفية في شقها التاريخي التراثي الترابي المحلي، مواكبا متتبعا بل بأنشطة عدة على امتداد عقود من الزمن كنا قريبين من بعضها، نسأل الله تعالى أن تكون صدقة جارية له في عالمه القدسي المكين رحمه الله. لقد كان شخص الفقيد رحمه الله، بتواضع قل مثيله وبنكران ذات، فضلا عن لطف وجميل صفات مترفعاً قنوعاً عفيفاً خلوقاً بحس ووجدان وقلب رحيم. يشاء القدر الإلهي أن يلبي رحمه الله تعالى دعوة ربه هذا اليوم بمدينته التي عشقها منذ طفولته وارتبط بها في حياته ارتباطا جنونيا ايجابا، وأن يرحل الى دار البقاء بعد معاناة مع مرض لم ينفع معه علا. يشاء القدر الإلهي أن يرحل الى دار البقاء محفوفاً برعاية الله تعالي مشمولاً بحب وتقدير من عرفوه وعايشوه وجايلوه كانسان وكتازي غيور قلبا ووجدانا وسلوكا وعلاقة وموقفا ايضا..، سلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا، وليس أعظم من قول الله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي”، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون “اللهم ارحم صديقنا وعزيزنا واخانا برحمتك الواسعة واسكنه فسيح جناتك وارزق اهله واسرته الصبر والسلوان، يا ارحم الراحمين يا رب العالمين.


ads after content
الإشهار 3
شاهد أيضا
الإشهار 4
تعليقات الزوار
جاري التحميل ...
الإشهار 5