ads980-90 after header


الإشهار 1


بوجمعة العوفي: غُرْبَتُنَا اليَومَ في الزّمَنِ الرّقْمِيّ

الإشهار 2

www.alhadattv.ma

دَخَلْنا اليومَ عصر الصورة والوسائط الرقمية بامتياز، وبدأتْ تتغير بسرعة كبيرة من حولنا وفي محيطنا ومجال معيشنا اليومي العديد من الأشياء وما نستهلكه من خطابات، سواء بالنسبة لوسائل إنتاج هذه الخطابات أو لتلقيها بشكل خاص، حيث يَصْعُب معها ملاحقةُ، بل حتى استيعابُ، ما تَعرفه هذه الوسائط الرقمية من تطورات مذهلة، تُدخلنا أيضا، سواء برغبتنا أو من دونها، في أنماط جديدة ومغايرة من التلقي والاستهلاك.

تغلغلتْ التكنولوجيا المعلوماتية الرقمية، ونُظُم معالجة المعطيات، والتحليل المعلوماتي، والبرمجيات بشكل كاسح، في صلب حياتنا ومشهدنا اليومي، وبدأت تتغير معها الكثير من عاداتنا ورؤيتنا للعالَم والتعامل معه في نفس الوقت، ولم يَعُدْ، حتما، من الممكن الآن تجاهل هذا الوافد الجديد، واعتباره مجرد موضة عابرة، أو تقليعة من تقليعات الحداثة التقنية. إنها إفرازات العصر الجديد، وتحول المفاهيم وأنماط السلوك في عصر الذكاء الاصطناعي، والحواسيب، والحاسبات الآلية، والرقائق الإلكترونية Puces électroniques، وغيرها من التقنيات والنُظم الآلية الدقيقة.

أصبحنا اليومَ في قلب عصر “السيبرنيطيقا La cybernétique” (العِلْم الذي يدرُس ميكانيزمات التواصل لدى الآلات ولدى الكائنات الحية) أو، بالأحرى، في عصر “التأليل الشامل” (التغلغل الكلي للآلة والأنظمة الآلية في جميع مناحي ومجالات حياة الإنسان)، كما أصبح يُصطلح عليه في بعض التعريفات والأبحاث الخاص بهذا المجال، وامتدَّ تأثير هذه التقنيات الرقمية والمعلوماتية إلى جوانب الإنتاج والتواصل الرمزيين للإنسان، بما في ذلك مجالات الكتابة والقراءة والإبداع الأدبي والفكري والفني نفسها بشكل عام، بحيث طرأت الكثير من التغيرات على المنتوج الكتابي والقرائي والإبداعي المعاصر، وعلى سياقات وصيغ إنتاجه وتروجه بشكل أساس.

ولكونِ العالم العربي في مُجمله، وبأغلب شرائحه، لم يستوعب بَعْدُ بما يكفي من الشروط التاريخية والموضوعية مُجمَل الخصوصيات والجوانب التطبيقية والعملية للوسائطية والثقافة الرقمية في محيطه ومجالات حياته اليومية، باعتبار هذه التقنيات، هي تقنيات ومعارف مستوردة من الخارج، وغير متجذرة بشكل واعٍ وصحيح في ثقافته وتربته ومحيطه الحياتي، فغالبا ما يؤدي استعمال هذه التكنولوجيا الرقمية ووسائطها المتعددة، في العالم العربي، إلى نوع من اغتراب المواطن العربي وغُربته داخل حقول ولغات ووسائل هذه التكنولوجيا الوافدة والمستوردة، بالرغم من أن هذا المواطن العربي قد قام بنوع التكييف الشخصي لوسائل هذه التكنولوجيا واستعمالاتها ووظائفها، حسب حاجاته ورغبته واستعمالاته الخاصة كذلك، وأوجد لها، أو بالأحرى، ابتكرَ لها بطريقته وبإبداعيته الخاصة أشكالَ استعمالٍ ووظائفَ أخرى، ربما لم تَخطُر بتاتا حتى على بال مُخترِعها الأصلي ؟

حيث يمكن الإشارة، هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى بعض طرق الاستعمال الخصاص لتقنيات وإمكانات ولغات التراسل الإلكتروني، والتواصل الرقمي عبر الحواسيب والهواتف المحمولة لدى المواطن العربي، الذي أوْجَدَ في الأجهزة الرقمية التي لا تتوفر على اللغة العربية، بدائلَ وطُرُقَ استعمال أخرى قام بابتكارها، وأصبحتْ منتشرة، فاستعمل مثلا رقم (3) مكان حرف “العين”، ورقم (9) مكان حرف “القاف”، ورقم (7) مكان حرف “الحاء” … وما إلى ذلك من أشكال “تطويع” التكنولوجيا وجَعْلِ لُغاتها ووظائفها مناسبة لمحيطه ولثقافة واستعمالاته الخاصة.

من هنا، وجد هذا الكائن العربي نفسَه فجأة أمام تقنيات ووسائطَ رقمية، مُعقَّدة الصنع والخصائص وسهلة الاستعمال في نفس الوقت، مما جعله يستعملها في الغالب من باب التعود والممارسة، وليس من باب المعرفة الدقيقة أو حتى الضرورية بأنساقها، وتركيبها، ونسيجها العضوي. ونحنُ في عالمنا العربي، غالبا ما نقوم بجلب واستيراد أحدث التكنولوجيات الرقمية وغيرها، لكننا لا نستورد المعرفة المصاحبة لها بالأساس، وهذه واحدة من إمكانات العجز والمفاجأة، وأشكال الاغتراب التي بدأت تخلقها هذه التكنولوجيا المتطورة في وعي وإحساس وسلوكات وثقافة وهوية المواطن العربي. هذا دون إغفال الكثير من السلبيات وأشكال الخطر التي قد تُلحِقها هذه التكنولوجيا الرقمية الجديدة بالفرد والكائن البشري (سواء في العالم العربي أو غيره)، وذلك من خلال الاستعمال السيئ أو غير الواعي بهذه الوسائط والتقنيات.

أمام هذا العالم “السيبرنيطيقي” المتغير والجديد، وداخل مجالات كل هذه الوسائط، وكل هذه الترسانة المعقدة من الأجهزة الرقمية والإلكترونية، ذات الوظائف التواصلية السهلة والرفيعة، والمهام الإنجازية العديدة والسريعة، وجدَ الكاتبُ والمبدع العربي نفسَه، كما الفرد العادي، على حين غرة وبدون سابق إنذار، في مواجهةٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ مع هذه الأجهزة الإلكترونية، التي أخذت تَقْلِبُ حياة البشر رأسا على عقِب، وتعمل، بالتالي، على تغيير الكثير من تصوراته ومفاهيمه ونظرته إلى العالم والحضارة والثقافة على حد سواء.

قال المتنبي ذات عصر، معتزا أو مفتخرا بنفسه، في واحدة من أجمل وأشهر قصائده في الفخر والمديح معا:

الخَيلُ والليلُ والبَيْـداءُ تَعْـرِفُـني / والسّيفُ والرُّمحُ والقِرطَاسُ والقَلمُ

ولا ندري هنا حقيقة، ومن باب المفارقة فقط، أو من باب نوع من القَلْبِ المجازي للظروف والسياقات التاريخية، أو حتى من باب تلك “الاستعارات التي بها نحيا ” ماذا كان سيقوله الآن أو يكتُبه، بالأحرى، شاعر كبير ومتميز من عيار المتنبي، وهو يرى أو يُعايش بدوره هذه “العجائب” الرقمية والإلكترونية، أو هذا العتاد الرهيب لسيبرنيطيقا العصر الحالي؟

هل كان المتنبي سيقوم اليومَ بدوره بنوع من الإبدال الخاص لشكل ومضمون القول الشعري، ويقوم كذلك بنوع من التّرحيل الرمزي لموصوف القصيدة وقاموسها، نحو عصر الصورة وعتادِها، أو ربما أيضا نحو أشياء أخرى (ومنها أدوات الكتابة نفسها) لم تعُد لها نفس الوظيفة أو نفس القيمة التي كانت لها في عصره؟ ربما كان الشاعر الكبير سيستبدل في بيته الشعري هذا، وفيما يخص أدوات الكتابة تحديدا: “القِرطاس” بشاشة الحاسوب، و “القلم” بلوحة المفاتيح Le clavier، لتكون القصيدة وقاموسها منتسبين بالفعل لعصرهما الجديد؟

وحين يَعتقد الكثير مِنّا بأننا أصبحنا فعلا، في هذا العصر أو الزمن الرقمي، أكثر قربا من الآخرين في عالم أصبح أيضا “قرية صغيرة”، وأننا نعيش وسط عالم واحد ومشتَرك، نتقاسمُ فيه كل شيء، بما في ذلك الكثير من أشكال حياتنا الأكثر حميمية وخصوصية، فالعكسُ، ربما، هو الصحيح: أصبحنا أكثر عزلة أمام شاشات هواتفنا الذكية وفي عوالمنا الافتراضية ومَخادِعنا الإلكترونية، إلى درجة أن الكثير من مظاهر حياتنا وأزمنتنا اليومية انقلبتْ رأسا على عَقِب، وبشكل مأساوي. أصبحنا كائناتٍ مغتربة تعيش أو تُقيم بشكل شبه نهائي في الافتراضي أكثر من الواقعي، وتلك هي مأساتُنا أو غُربتنا اليوم في الزّمن الرقمي!


ads after content
الإشهار 3
شاهد أيضا
الإشهار 4
تعليقات الزوار
جاري التحميل ...
الإشهار 5