قراءة في حياة ب “الأبيض والأسود” للكاتب والممثل العالمي نورالدين بنكيران

www.alhadattv.ma
* بقلم الروائي عمر الصديقي
يطيب لي في البداية أن أنوه عاليا بمبادرة نادي المسرح والسينما وهو يحتضن ويحتفل بإصدار جديد لصديقنا الفنان المقتدر نور الدين بنكيران، وذلك على سبيل المواساة له على مرارة المعاناة التي عاشها وهو طفل، ثم تشجيعا له على مواصلة العطاء وهو مبدع، وأخيرا تكريما له على جهوده في مجال الكتابة والمسرح والسينما كفنان خلوق مثابر وهادئ يشتغل في صمت.
عتبات الإصدار: العنوان واللوحة والصور التذكارية وكلمة الغلاف
أول ما أثار انتباهي وأنا استلم نسخة من هذا الإصدار الجديد هو عنوانه الذكي والواضح والبسيط الذي يحيل دون أدنى غموض على ذاكرة الماضي، ذاكرة بالأبيض والأسود، ذاكرة جيل مابعد الاستقلال مباشرة. كما كنت أتوقع من خلال فرضية القراءة، المؤلف صنفه صاحبه ضمن خانة السيرة الذاتية التي تعكس مراحل حياة الفنان المبدع نور الدين بنكيران…. ذلك الطفل البريء لذي ترعرع بأزقة المدينة العتيقة، وذلك الشاب المشاغب الذي عاش متنقلا بين تازة ومجموعة من المدن المغربية بحثا عن الرحابة المستوعبة لشغفه الفني…ثم ذلك الكهل الرصين المثقل بالتجربة من خلال حضوره الدولي المميز على الشاشات العالمية الكبرى.
في الحقيقة، نحن أمام مسار فني لا يمكن أن يختزله عنوان أو كتاب أو رواية أو شريط، إذ جاء العمل محملا بسيناريوهات متعددة غير متوقعة، تماما كما في السينما، هو “فلاش باك” بكاميرات متنقلة عبر زوايا مشهد مثير اسمه “الحياة”.
بخصوص الغلاف الخارجي، لقد توفق المصممون تقنيا في التأثيث لمشهد بانورامي نوستالجي أصيل مستوحى من ملامح المدينة العتيقة، بأقواسها ونوافذها ودفء وسكون تضاريسها…ذلك ما يتضح من لوحة الغلاف التي تذكرنا تشكيليا بقوسيات الفنان بلامين في تركيبتها وطبيعتها الاستيتيقية. اللوحة في واقع الأمر هي من الأعمال الإبداعية للتشكيلي الشاب صلاح الطيبي الذي أبدع هندسة ضوئية رائعة يمتزج فيها البنفسجي الداكن بالأبيض المورد على خلفية عتبة مجوفة حبلى بالمعاني والقيم والدلالات.
أما بشأن الصور التذكارية المشتغل عليها، فحبذا لو تم توظيف صور بالأبيض والأسود وفاء لدلالة العنوان. وحبذا لو نقل لنا الكاتب ذلك الألبوم القديم للمستشفى العسكري بتازة على سبيل التوثيق التاريخي، ثم صورا لوالدته “الأم الزهرة” وأخرى لقبة السوق وساحة أحراش وباب الجمعة ودرب لالة العالية الخ…مع ضرورة التعليق عليها بالشكل الذي يخدم الطبيعة التوثيقية لهذه السيرة الذاتية كجزء من الرواية التاريخية، إذ أثار الكاتب عدة وقائع تاريخية مثل: مرحلة الحماية، الوطنيون، ظاهرة البون، الاعتقال، المقاومة، المسيرة الخضراء…عودة ووفاة المغفور له محمد الخامس…
بالنسبة لكلمة الغلاف، وفي حالة ما إذا فكر صديقنا في طبعة ثانية، اقترح عليه التعهد بها لأستاذ أو أديب أو صديق يقدم من خلالها شهادة في حقه. أو اقترح عليه اختيار هذه الفقرة المفصلية من كتابه والتي أعجبتني كثيرا وهي: أي نور أرى في حياتي بعد ما خيم الظلام حول أمي…..(ص77)
قراءة في مضمون الكتاب
سيرة مبدعنا أو بالأحرى “أوطوبيوغرافية” الأستاذ بنكيران الموسومة بالأبيض والأسود هي من حيث شدة الخصوصية التي تطبعها، أجدها شخصيا قريبة من المذكرات الشخصية أو (Le journal intime) ، بالرغم أن الكاتب يخاطب محيطه الاجتماعي والثقافي علانية ويصف لقرائه بوفاء قسوة تجربة خاصة مرتبطة بزمن الماضي.
الكتاب بحجم معاناته يحمل بين دفتيه 94 فصلا مستقلا وعنوانا فرعيا، هي بمثابة نوافذ مشرعة على تفاصيل دقيقة من يوميات ومسار الفنان نور الدين بنكيران، وذلك منذ صرخته الأولى بالمستشفى العسكري بتازة يوم 16 نوفمبر 1955 إلى هذه اللحظة الحية من توقيع كتابه وسط عائلته واصدقائه.
نعم لقد تشرفت بقراءة سيرته التي تشبه إلى حد بعيد كتابات محمد شكري، من حيث السياق التاريخي والمسار الفني والمصير الاجتماعي…لقد بكيت وضحكت معا وأنا اقرأ هذا المتن السيري الممتع والمشوق….أسلوبه مزيج من الوقائع المسلية والكوميديا السوداء situations comiques / comédie noire التي تضمد جراح السنين العجاف التي عاشتها الأجيال السابقة….
سرده يتدفق في انسيابات التداعي الحر كأنه نهر لا ينقطع ، وجمله تتمطط طويلا حتى تأتي على كل التفاصيل الخصبة، مما يدل على أن الكاتب يعشق فن الحكي حتى النخاع، ويرغب في تفريغ علبته السوداء على مرأى ومسمع من الجميع دون حرج أو حياء أو تلميح أو تصنع… مما يجعل القارئ أو المتلقي أمام مادة درامية خامة مؤثرة صالحة للعمل السينمائي، بل كأنها “بوبينات” أفلام جاهزة للعرض أمام الجماهير…. لغته سردية ووصفية بامتياز، لغة ممسرحة إن صح القول. فكيف لا ؟ وهو الذي أهدى حياته قربانا لخشبة المسرح، وتنقل بذكاء من ركح إلى ركح داخل وخارج الوطن.
صحيح أنه لا يكتب بأسلوب الشعراء الكبار والأدباء المحترفين، بل يحكي بعفوية المسرحي، ويتكلم بتلقائية الفنان الحر، ويتحرك بحرفية الممثل المحترف داخل اطار الشاشات…انه الفنان الذي يبدع وهو يستمتع ويمتع بجراحه وآلامه، تارة على سبيل التسلية المرحة المعهودة فيه، وتارة على سبيل الدرس والعبرة، فهو الإنسان بدرجة الأستاذ المتخرج بميزة مشرف جدا من مدرسة تسمى “الحياة”، هو يلقن الأجيال الحاضرة والقادمة دروسا في الصمود والصبر والإيمان بالأمل إلى أخر رمق في الحياة.